في الغياهب

و أعود إلى ربي فـ ديني ,و أسأل كل العارفين بدين الله و كل الأقطاب الظاهرين ليجدوا لي حلً .. أعني حلً واحد فقط لتلك التي أغرقتني في ديمومها

كانت الساعة تشرف على منتصف الليل عندما خُيلتي لي .. و كانت على تمام مُنتصف الليل عندما إرتديت ثوبي الأبيض الفضفاض الغارق في المسك و أجتنبت أن ألمس كل شيئ إلا التراب و الأرض و الماء و دخلتُ خلوتي أتأمل و أحتضر كل العارفين و أسألهم عنك .. ولا أتلقى إجابة واحدة .. إجابة واحدة لعينة كانت تكفي لأنهي كل شيئ و أنعم بالراحة .. و لأول مرة أسأل سيدي عبد القادر الجيلاني ولا يجيبني بشيئ ولا حتى بإنزعاج أو راحة .

و قد بلغ حُبك الزبى .. و العلقم فيه كأنه شهد خالد الطعم دائم الحلاوة .. و كانت تلك الفترة القصيرة بيننا .. أعني القصيرة جداً .. كأنها دهر .. و كأن الذي بيننا وِلد طفلاً و كبر و تشبب وشاب قبل أن يشيب شعر رأسه و حصل ما حصل.

و الكفر فيك إيمان

و الإيمان فيك معصية

و الله وحده ربما يعلم

و الله وحده ربما لايعلم إلى أين سننتهي .. إلى أين قد يحمل الطوفان سفينة نوح؟
و أنا لست بنوح .. و لست بعيسى و لا محمد فبذلك تكونين لستِ بعائشة .. و أكره كوني مُختلفاً و أحب أن أكون ذلك الشخص العادي .. العادي جداً .. الذي ينتظر نهاية دوام العمل فيعود لمنزله و يقراء الجريدة و أنتِ تعدين الغداء و تكويين الملابس .. و الذي حصل أنني خُلقت تيساً مُختلف عن باقي التيوس ..أرعناً و أخرق .. و لكنك تعدين الغداء .. لكن ليس لي .. و لكنك تكويين .. أعني تكوينني في كل مرة تحاولين فيها إبعادي عنك و أعود لأكوي نفسي عندما تحاولين فتح الجرح في كل مرة أحاول فيها إبعادك عني.

 

و الظلام فيك نور

و النور فيك شمعة

تضيئ ولا تحترق

لا أحد يحترق منك

سواي أنا .. تماماً كـ بنغازي التي تشبهينها كثيراً في عنادك و مكابرتك و برودك .. بنغازي تحرقني في كل يومِ لا أرى فيه خريبيش ولا  الشابي  و أنت تحرقينينني في كل يومِ لا أرى فيه سواك ولا أستطيع بلوغك .. في كل مرة أقترب فيها من إحداهن فأبتعد مسرعاً بعدما أرى صورتك في وجهها و بحتك حين تخبرينيني أنك إشتقتي في صوتها .. أعني ألم يحن موعد الفراق النهائي بعد؟

يتبع أم إنتهى؟.

 

 

دون طعام .. نامت بنغازي.

بداية اليوم عندما قررت أن أتجول في ماتبقى من بنغازي فقط بعشرة دينار,رغماً عن وجود عُمر المختار بلحيته المرسومة,كذلك أيضاً كانت لحية السائق الذي يعمل على سيارته “تاكسي” و الذي أرغمني على دفع خمس دنانير عنوة ثمنً للتوصيلة و قد تشاجرت معه و سببت أمه و ضربني و شتم حفتر و البلاد و إتهمها بالعهر و أحرق عجلات السيارة مسرعاً في إتجاه الطريق المقابل.

على الجانب الأخر كان المصرف .. و  كان المقهى .. و المطعم و المدرسة و معلمة جميلة ملكت نصف جمال الأرض لثوان فقط حتى إنتهى ضوء الشمس من مداعبتها.
و نحن في بنغازي إذ نقدر كل مانمر فيه من شذوذ اللحظات و سلاسة البدايات و جمال النهايات و ما بينهما من ملل إلا أننا أصبحنا ننبذ حياة الفقر التي أرغمونا عليها و ننبذ أولئك البرجوازيين البلهاء الذين يسرقون أموالنا و يكدسونها في بيوتهم كما فعل أبائهم لأبائنا و أجدادهم لأجدادنا من قبلنا.
و حقيقة الأمر لا أعلم متى أول مرة تم إستهلاكنا فيها , أو أول مرة تم إستعمالنا فيها كورقة ضغط.
و إعتماد الحكومة لايهمني و لايهم العم شكري بائع الخضار على الرصيف ولا يهم أسامة بلحة بائع السجائر و بالتأكيد أنه لم يكن يهم محمود بائع المواد الغذائية الذي قُتل البارحة و الذي دمعت عيون أمي حالما سمعت بخبره.
و قد سجلنا إستنكارنا للسادة السياسيين السفهاء مجازياً وقلنا لهم بأن حد الوقاحة أن تصل صراعاتكم لمرتباتنا و أموالنا القليلة و أن تصل معارككم التي نقلتموها من على سجائدكم الحمراء إلى سفر الأكل في بيوتنا أمر غير مقبول و أن حد القصاص منكم لن يشبع جوع أطفالنا كما أننا لا نمتلك ثمن السكين لذبحكم و ثمن الحبل لشنقكم و لا نملك إلا الصبر و الدعاء لله “هذا إن وجد”.

و قد قٌبل كلامنا باللامبالة و قالوا لنا كلام عن حب بنغازي و عن برقة و عن ليبيا و بضع أبيات من قصائد مقرفة و بضع مقولات تلاها الصادق النيهوم في أحدى كُتبه الرخيصة و كل ذلك الكلام لم يوفر لوالدتي الخضار و الزيت و اللحم لتعد لنا الغداء و لم يعطي لشقيقي ثمن كراسة العلوم ذات صفحة بيضاء و صفحة مسطرة و لم يعطني ثمن المكياطة و السجائر و لم يعطي أيضاً أهل محمود ثمن الكفن و الخيمة و الوضيمة .. لنعود للوطن الذي أغترب عنا منذ بداية حرب السنوات الخمس و حرب المئة بداية و النهاية الواحدة,و لم يعد في مقدرونا مانفعل إلا الموت سريعاً لنتجنب الموت بطيئا .. ربما فعلاً تكون هنالك جنة و ننعم بنعيمها .. لكن الربما فعلاً أن تكون هنالك نار و نؤبد فيها لذنب واحد أننا نحن .. أعني من في بنغازي سلالة مذنبة نسكن مدينة الخطيئة و التي لم تعد تنفع معاه الإستتابة.

و كانت عملتنا تفعل الكثير

و صارت عملتنا تعني القليل

و الكهرباء ماعادت تنفعنا

و الدماء ماعادت تشبعنا

مزال الملح فقط يفعل

حالما تقبل بنغازي في عنقها

تحت أذنها

تلتصق ملوحتها في شفاهك.

 

 

رسائل غير مرسلة “5”

عزيزي الشاطر حسن ..

بعد التحية ..


أتمنى أن تكون بخير و أن تكون أمك التي أرهقتك و هي في طريق الموت بخير,أعني ياصديقي لماذا لم تمت أمك بعد؟ لماذا يحرمها الله .. هذا إن وجد .. يحرمها من راحة الموت؟


عام و نيف مرّ على هجرانك كاوة الملح إلى قاهرة المعز و لم ترجع و يبدو أنك قد تغيرت كثيراً و صرت شبيها بعدما كنت لاشبيه لك و أعلم جيداً أنك وجدت نفسك و ضالتك هناك و وجدت الحرية التي تبغي هناك و هذه ثان رسالة أكتبها لك ولا أرسلها و قد وصلني ماكتبت لي منتصف أبريل من العام المنصرم .. بل العام الصرم .. و قد عدت أنا إلى بنغازي ياصديقي ولا أعلم كيف حصل ذلك .. كيف تركت ملابسي و كُتبي و عملي في البيضاء و ركبت سيارة أجرة متجهة إلى بنغازي .. و قد إتصلت بصديق لايحبك و أحضر لي عشرين دينار ثمن سيارة الأجرة .. و البيضاء مدينة كريهة جداً ياصديقي و الحياة هنالك تماماً كالجحيم غير أنه بارد .. و البيضاء مدينة غير مباركة ياصديقي فقد صرفت كل أموالي هناك و عدت لبنغازي أحمل على كتفاي ديناً بحوالي الستمئة دينار .. ولازلت أتذكر بداية الحرب عندما كنا نحتسي المكياطة في ميدان الفضيل بوعمر بالبركة .. و كنا دائماً نشتريها من هناك و نشتري فطائر البوريك من طرخان و لم أعد أذهب للبركة كثيراً ياصديقي إلا أن قدماي قادتني إلى هناك صباح اليوم ,على تمام الثامنة وجدت نفسي أصل لذلك المقهى المليئ بالمتخلفين و البلهاء من أبناء بنغازي المدينة و قد تحدثوا جميعاً في أمور تافهة حيث أصر شخص عجوز يرتدي قبعة باري سوداء أنه إذا أردت أن تسير الأمور بينك و بين زوجتك جيداً فعليك أن تحضر لها “دوارة” و أسماك من النوع الصغير لتقوم هي بتنظيفها و طبخها لك و قد أصر ذلك السيد أن النساء لا تأتي إلا بهذه الطريقة و قد وافقه جميع المتخلفين و البلهاء و شربوا نخباً بالمكياطة في صحة رجل يتكلم مع نفسه وسط الطريق و هو يردد أنه لا يحق لأحد محاسبته ولا حتى الله ..ولا حتى محمد .. هكذا قالها .. ولم يكفره أحد و لم يضربه أحد و كأن بنغازي فجأة و بدون أي إعلان صارت بلد الحريات و أستمتعت أنا بالمكياطة ياصديقي و أستمتعت بصحبة البلهاء كثيراً و بالبركة كثيراً حيث جبت شوارعها أبحث عن أي شيئ يلفت الإنتباه و الجميل أيضاً أن كل المارة أثناء جلوسي بالمقهى يلقون تحية الصباح علينا نحن البلهاء و المتخلفين حتى أن أحدهم قال أثناء مروره و بكل بساطة .. صباح الخير عليكم ياسادة.

ألا يذكرك هذا بشيئ أيها الأصلع الدجال؟

أعني ألا يذكرك بتيكا و لبدة و مقاهي وسط المدينة الذي صار أثراً  بعد عين؟ و بنغازي تغيرت قليلاً بعد تصعيد العمليات العسكرية فيها ,أعني أن هنالك شيئاً من روح المدينة قد عاد و لو كان صغيراً.
و بنغازي يادوك تماماً أصبحت تشبه تلك الفتاة التي حدثتك عنها يوماً في عنادها و مكابرتها و ثقتها بنفسها و للأسف أيضاً في قسوتها..و بالأمس قد كنت على بُعد المئتي كيلومتر على تحقيق حلمي بالسفر إلى تونس و زيارة العارف سيدي بوسعيد الباجي و شٌرب البوخة اليهودية غير أن فجأة قررت أن أبقى و أدع أمر السفر إلى وقت أخر .. ولا زالت أقوم بتكذيبك في كل مرة تقول لي فيها بأنك سترجع قريباً .. و يصدق تكذيبي بأنك لن ترجع .. و هذا الشيئ يضايقني كثيراً .. أعني أنني أعرف الناس عندما يكذبون جيداً ولو فقط بالكتابة و خاصة أنت أعرف تلك الخوارزمية التي تستخدمها في ترتيب الجمل و الكلمات عندما تكذب .. و يضايقني أيضاً عندما تقول لي أنني أكتب جيداً .. و لم أتوقع أن تقولها أنت ذلك الأصلع العليم .. و أنا ياصديقي لا أكتب جيداً .. بل أنا أكتب فقط .. ربما بصدق .. ربما دون ألوان .. و أستمر في الكتابة حتى تنتهي الكأبة و أرجع شاباً و أتمنى ياصديقي بصدق أن أعيش عمري و سني .. و أن لا أعود لتلك الأعمال و الأفعال و الممارسات السابقة لأوانها فهذه الأشياء صنعت مني تيساً كبيراً و عجوزاً رخو .. و أنا أيها النجس أسمطها الأن فوق سطح منزلنا .. الرؤية أصبحت مشوشة .. و لا أدري لماذا فتحت المذكرة المركونة أسفل البلاط لأكتب لك .. إلا أنني إشتقت إلى تلك الأيام .. و أحزنني أنك قد بعت سيارتك التي دائماً ما تسكعنا بها في شوارع بنغازي المدينة .. و أنا ياصديقي حزين جداً .. و أنا ياصديقي سعيد جداً .. و أنا ياصديقي أكره الجميع .. و أنا ياصديقي أحب أمي و أبي و أخوتي و من هم في حكمهم و أحب تلك الفتاة كثيراً و لكن يبدو أنني على نحو ما أحب بنغازي أكثر من كل ذلك فلعيش دون ملح و شاطئ أمر جلي بأن يدعك تترك البيضاء و الجبل و ترجع إلى بنغازي مع رجل يتوقف كل دقائق ليدخن الكنشة وسط الطريق.


أخيراً مفتاحك وصلني .. ولازلت لاأعلم لأي قفل هو .. و أتمنى أن تتوقف عن طرح أسئلتك القحبة و المزعجة.. و أن لاتنسى إرسال كتاب يسري الفودة مع أوتار ألمانيا لألة العود .. و أن تتحملني قليلاً .. و أن تكون بخير .. و أن يكون الله معك .. هذا إن وجد.